"الصدق والكذب " قضية نقدية

الصدق والكذب
عندما يقول الشاعر عن ممدوحه : أنت شمس، أنت بحر ، أنت قمر فانه لا يكذب أو يصدق وإنما هو يتخيل والخيال صفة أساسية في الشعر. إن الحب ليجعل العاشق يتخيل من يحب أجمل الناس وكذلك المبغض يجعل كل مذمة ونقيصة في عدوه وكذلك يفعل المفتخر والمادح.مثال كتاب كليلة ودمنة على السنة الحيوانات والقصص الأسطورية بما فيها من تشويق وإثارة لا تسمى كذبا
لكن من يلفق ويزور في التاريخ والخبر الصحفي يعد كاذبا ملفقا.
ما السبب في إقرارنا بالصدق لكل ما سبق؟
بسبب الخيال الذي يعد القدرة المبدعة التي تشكل العمل الأدبي وتبرز الحقيقة الكلية في صورة محسوسة
الأديب عندما يرسم بخياله صورا وأحداثا يجسد بها فكرة أو يقدم بها عملا فنيا نستمتع به فلا نحكم عليه بمدى مطابقته للواقع وإنما نحكم عليه بمدى قدرة كاتبه وبراعته في رسم تلك الصور.
الصدق مطابقة الواقع، الكذب مخالفة للواقع لكن الواقع عند الشعراء يختلف عن الواقع عند الناس.
مثال:قول البحتري في تفضيل الشيب على الشباب.
وبياض البازي اصدق حسنا إن تأملت من سواد الغراب
هل توافق الشاعر على ذلك؟ لا
هل جمال البازي في لونه يقتضي ألا يذم الشيب؟ في نظر الشاعر نعم.
هل ينحصر عيب الشيب في اللون وحده؟ لا
يقول ابن المعتز:
قالت كبرت وشبت قلت لها هذا غبار وقائع الدهر
تبرير في نفس الشاعر إن الشيب هو غبار التجارب والمعاناة التي عاشها في حياته
هذا غبار وقائع الدهر كناية عن موصوف الشيب ولا نسمي العبارة كذبا بل مبالغة مستحبة لها مبرر أو تعليل في نفس الشاعر فقد يكون جرب تجارب وعانى في حياته.
حسن التعليل: من المحسنات اللفظية للمعاني يبتدع الشاعر من خياله تعليلا غير واقعي لوصف أو فكرة يدعي أنها السبب فيما يحدث وجمال حسن التعليل إن يكون فيه لطف وطرافة.
قال المتنبي في مدح بدر بن عمار:
ما به قتل أعاديه ولكن يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
ما العلة التي تخيلها الشاعر سبب يحفز الممدوح على قتل الأعداء؟
حرصه على إن لا يخلف وعده بما ترجو الذئاب من طعام
هل يعد ذلك من الكذب والمبالغات الممقوتة؟ لا
المبالغات الممقوتة ( بغيضة إلى النفس ): يخرج فيها الشاعر عن نواميس الطبيعة وتجاوز الحدود إلى مبالغات تخطاها إلى المستحيل الذي لا يقع ضمن الخيال الممكن .
موقف النقاد من قضية الصدق والكذب:
1. أعذب الشعر اكذبه
2. أعذب الشعر أصدقه
أعذب الشعر اكذبه
الشعر كلما كانت فيه الصور مبتكرة ومتعددة الإيحاءات كان الشعراكثر تأثيرا في المتلقي وان كانت صوره تجافي الواقع.أصحاب المذهب يرون إن الكذب ميدانه التخييل والتمثيل
أبو هلال العسكري: إن الشعر أكثره قد بني على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة والنعوت الخارجة عن العادات .... لا سيما الشعر الجاهلي وليس يراد منه ألا حسن اللفظ وجودة المعنى.
مثال البحتري يعبر عن ذلك: كلفتمونا حدود منطقكم والشعر يغني عن صدقه كذبه.
المبالغة الممقوتة في الكذب: المبالغات الممقوتة ( بغيضة إلى النفس ): يخرج فيها الشاعر عن نواميس الطبيعة وتجاوز الحدود إلى مبالغات تخطاها إلى المستحيل الذي لا يقع ضمن الخيال الممكن .من مثل وضع صفات الهية في إنسان
مثال قول بشار مولى مضر:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
بالغ في الفخر فغضبة من مضر لها تأثير قوي على أعدائها في كل ناحية فلو كانت الشمس وراء حجاب لهتكناه
غلو في الفخر المجافي للواقع وعدها البعض مبالغة ممقوتة بغيضة إلى النفس بسبب استعمال هتكاه والهتك متصل بهتك العرض
الغلو والإسراف يخالف الواقع ويخرج اللفظ عن الصدق الكذب له حلاوة إنما الغلو هو ما يفسده وهو إفراط في الكذب
الكذب ضرب من ضروب الخيال وعندما يصل الخيال إلى مرحلة يتجاوز الحد المعقول عادة وعقلا يتحول إلى إغراق وغلو
مثال:قدر أحمق الخطى " وصل إلى الكفر
من أنصار أعذب الشعر اكذبه: ابن الأثير صاحب كتاب المثل السائر حيث جعل الكذب درجات مستحسن وغير مستحسن
ابن سنان الخفاجي صاحب كتاب سر الفصاحة : الشاعر عليه إن يختار كلمات تقربه من الحقيقة من مثل ( كاد ) وما جرى معناها مثال
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد إن يتكلما
موقف الإسلام من الصدق والكذب:
الإغراق والإفراط في الكذب نهت عنه الآيات القرآنية ألا ما خرج لنصرة دين
مثال على الإغراق في الكذب:
لو تطلب البحر في عينيك اسكبه أو تطلب الشمس في كفيك ارميها
خرج عن منطق العقل وقد يصل إلى الكفر
لغة الشعر غير لغة النثر وضحي ذلك:
قد يبنى الشعر على المبالغات والمجازات والاستعارات التي تعطي الشعر حلاوته وروحه وغموضه وأثره في المشاعر وهذا ما أكده الناقد الجرجاني بقوله: ومن قال أعذب الشعر اكذبه ذهب إلى إن الصنعة إنما يمد باعها وينشر شعاعها ويتسع ميدانها وتتفرع أفنانها حيث يعتمد الاتساع والتخييل ويدعي الحقيقة فيما أصله التقريب والتمثيل ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذم وهذا يجد الشاعر فيه سبيلا إلى إن يبدع ويزيد في اختراع الصور.
انظر سحر الشعر كيف يجعل من القبح حسنا
قاتل أبو الحسن الانباري في رثاء أبي طاهر بن بقية ( وزير عز الدولة ) أمر بصلبه عضد الدوله
علوا في الحياة وفي الممات بحق تلك إحدى المعجزات
كان الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيبا وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء كمدهما إليهم بالهبات
( كيف استطاع الشاعر أن يقلب معاني الاهانة إلى معاني شرف وإجلال.)



أعذب الشعر أصدقه
الصدق أنواع:
صدق خلقي: نقل الحقيقة الأخلاقية على حالها وهذا يتضح في المدح والهجاء وغيرها وهو يشبه موقف عمر رضي الله عنه من زهير وكان يمدح الرجل بما فيه وبما عرف عنه
الصدق عن ذات النفس : يكشف المعاني المختلجة في النفس والتصريح بما يكتم فيها والاعتراف بالحق في جميعها وهو التعبير عن تجربة الشاعر الذاتية وهو قريب من الصدق الفني.
الصدق التصويري: صدق التشبيه من مثل قوله شبهت العرب الشئ بمثله تشبيها صادقا على ما ذهبت إليه في معانيها التي أرادتها.
خير الكلام الحقائق فان لم يكن فما قاربها وناسبها.
الصدق الفني: أصالة الكاتب في تعبيره ورجوعه فيه إلى ذات نفسه لا إلى العيارات الذاتية الموروثة.
صدق تاريخي: صدق في نقل الأحداث والأخبار والحقائق التاريخية
أنصاره: يدعون إلى إبانة الحقيقة كما هي وعدم المبالغة ومجاوزة الحد ويرون أن المبالغة لا يستعملها إلا من عجز عن استعمال المألوف فيلجأ إليها ليسد عجزه.
مثال:
النفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى
قليل تقنع
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب عرف بين الله والناس
ألا كل شيئ ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
قال لبيد عن البيت السابق اصدق بيت قالته العرب لكن يقال أن الرسول عندما سمعه اعترض عليه لان المقصود كل نعيم الدنيا فنعيم الآخرة باق ولا يزول.
المبالغات الممقوتة كانت سببا في تحري الصدق أشار إلي حسان بن ثابت
وان اشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا
ما المعيار النقدي الذي اعتمده الشاعر في قوله هذا؟
المعيار هو الصدق
كيف يعد الصدق في الشعر معيارا نقديا؟؟ تقاس به جودة الأدب أو رداءته لان الصدق يعد من خلاله معيارا للنقد فيما يحققه من اثر فني في نفس المتلقي فالصدق يجعل الشاعر يعبر عن الأشياء لا كما هي بل تدركها الحواس وتؤثر في عواطفنا.
قضية للمناقشة:الشعر نكد بابه الشر هذا حسان بن ثابت فحل من فحول الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره
يرى الأصمعي أن طبيعة الشعر لا تتفق وقضايا الدين والأخلاق هل توافقه في ذلك؟
لا لان كثير من الشعر الديني الأخلاقي قدم صورا مبتكرة ومن ذلك شعر البوصيري وشعر احمد شوقي فقد أجاد في الشعر.
رأي الجرجاني:من قال خير الشعر أصدقه كان ترك الإغراق والمبالغة والتجاوز إلى التحقيق والتصحيح واعتماد ما يجري من العقل على أصل صحيح أحب إليه وآثره عنده....
من أنصار أعذب الشعر أصدقه: ابن طباطبا في كتابه عيار الشعر: " جعل الصدق من أهم عناصر الشعر واكبر مزاياه.
النقاد يفرقون بين نوعين من الصدق:
صدق الواقع: وصف وقائعه كما يراها الشاعر" مثال رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زهير بأنه شاعر الشعراء لأنه لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاضل في منطق ولا يقول ألا بما يعرف ولا يمدح الرجل ألا بما فيه."
فالصدق في القول والبعد عن التكلف والسمو بالنفس والدعوة إلى الفضيلة.
الصدق الفني:أصالة الكاتب في تعبيره ورجوعه فيه إلى ذات نفسه لا إلى العيارات الذاتية الموروثة
كيف تربط بين رأي عمر رضي الله عنه بالشاعر زهير من جهة وقضية الصدق والكذب من جهة أخرى؟
الصدق في القول وانسجامه مع الفن يحقق الترابط بين رأي عمر رضي الله عنه وقضية الصدق والكذب إذ أن الصدق المنشود هو صدق التأثير على نفس المتلقي وهو صدق الواقع بأجنحة الخيال المطلوب والمعقول لذلك حظي بتقديره زهير بن أبي سلمى فهو في نظره شاعر الشعراء لأنه لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاضل في منطق ولا يقول ألا بما يعرف ولا يمدح الرجل ألا بما فيه."
قدامة بن جعفر:مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين بان يصف شيئا وصفا حسنا ثم يذمه بعد ذلك ذما حسنا غير منكر له ولا معيب من فعله إذا أحسن المدح أو الذم بل أن ذلك عندي يدل على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها.
يمثل قدامة بن جعفر رأيه بالصدق الفني وهو التعبير عن أصالة الشاعر وجوعه إلى ذات نفسه
ابن طباطبا:يجب أن ينسق الكلام صدقا لا كذب فيه وإذا تضمن الشعر هذه الأنواع من الصدق ارتاحت إليه النفس وقبله الفهم يمثل ابن طباطبا صدق الواقع وقد قيده بالدعوة إلى سمو النفس والفضيلة
*******************************
استخدام الكتاب لمناقشة:
النقاد الغربيون وقضية الصدق والكذب " كولردج رتشاردز الدوس هكسلي وردزورث اوسكار وايلد"
النقاد العرب المبدعون في العصر الحديث: عبد الرحمن شكري فصل بين الخيال والوهم
احمد أمين في تأييده للصدق الفني
حل قضية المناقشة